Jumat, 09 Desember 2011

الاستحسان بين القبول والرد

المقدمة
 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيبنا المصطفى وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أشكر الله تعالى بهذه المنة العظيمة, قد تخلصنا بكتابة هذا البحث الذى أرشدنا بعض أساتذنا وزملائنا الذين يدرسون بعلوم الشريعة وبخاصة أستاذنا ومرشدنا على هذا المجال سماحة الدكتورإبراهيم عبد الرحيم والدكتور حسين سمرة بارك الله لهما فى حياتهما وعمرهما كما بارك الله لهما في علمهما النافع لنا خاصة والمسلمين عامة.  وكما أرشدنا علماءنا وفقهاءنا المتقدمون بما ألفوا من علوم الشريعة تحت كنز من كنوز كتب تراثنا الإسلامى حتى وصلت إلى نهاية هذا البحث الذى إختلف فيها الفقهاء فى الأخذ والإعتبار من مصادر التشريع ألا وهى تحت عنوان الموضوع "الاستحسان بين القبول والرد".
وبحث الاستحسان هذا قد اشتهر عند العلماءو كان الأخذ بالاستحسان مثار بحث ونقاش بينهم، فبعد أن أقره المالكية والحنابلة واشتهر به الحنفية، عده الشافعية والظاهرية بدعة وتشريعاً في الدين، ولذا قال الشافعي عبارته المشهورة ـ فيما تنقل في كتب الأصول وإن لم تكن في كتابه "الرسالة" : من استحسن فقد شرع [1] أي: وضع شرعاً جديداً.
فنحن بحاجة ماسة لأن يفهم كلّ منا الآخر، ويتم ذلك التفاهم بطرح شتى البحوث في الفقه والأصول كي يزال الجمود الذي خيم على عقول البعض لفترات زمنية، ومن ثم يحصل التفاعل المطلوب، وتلتقي الأفكار الناضجة.
إنّ  هذا البحث يعرض لهذه المسألة التى اختلف فيها الفقهاء بينهم سواء بقبولها أو ردها، ويناقش الآراء فيها، ويحاول الوصول إلى رأي ناضج. ويتخلص منهج البحث فى هذ الموضوع بطريقة التالية:
وهى طريقة الجمع والتحليل، حيث أجمع الآراء التى قيلت فى المسألة، ثم أقوم بتحليلها وفق منهج علمى، لاستخلاص الرأى الصائب الذى يظهر من هذه العملية.
أما عن الخطة : فقد جعلت الموضوع مكونا من مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة، كما يلى:
أما المقدمة فقد تناولت فيها بعض الأمور اللازمة من بيان نقطة من نقاط أهمية الموضوع وبيان منهج البحث وطريقة البحث الذى سلكت فيها لحل المشكلات.
وفى المبحث الأول: فى بيان حقيقة الإستحسان
المطلب الأول : تعريف الإستحسان لغة واصطلاحا
المطلب الثانى : أنواع الاستحسان
المطلب الثالث : شروط الاستحسان والمستحسن
المبحث الثانى : حجية الاستحسان وتحرير محل النزاع
المطلب الأول : موقف الأئمة من الاستحسان
المطلب الثانى : أدلة اعتبار الاستحسان
المطلب الثالث: أوجه إثبات الاستحسان وتحرير محل النزاع
المبحث الثالث: الاستحسان وتعارض الأدلة
المبحث الرابع : التطبيقات الفقهية المعاصر للاستحسان
 الخاتمة  

المبحث الأول
فى بيان حقيقة الاستحسان
المطلب الأول
الإستحسان لغة واصطلاحا

الإستحسان فى اللغة:
الاستحسان من جهة اللغة مأخوذ من الحسن، ومعناه: عدُّ الشيء، واعتقـاده حسناً؛ سواء أكان حسياً، كاستحسان الثوب، أم معنوياً؛ كاستحسـان الرأي، فيقـال: استحسنتُ كذا: أي اعتقدته حسناًواسْتَحْسَنَهُ : عَدَّهُ حَسَناً[2]، ويقال: هذا ما استحسنه المسلمون، أي: رأوه حسناً.
الإستحسان فى الإصطلاح:
عرف الأصوليون الاستحسان بعدة تعاريف لا يخلو بعضها من إبهام وغموض، وبعضها أقرب إلى تعاريف الأدباء التي يغلب عليها طابع السجع والتعريف الذي يمكن أن تنتهي إليه أكثر التعاريف هو: الأخذ بأقوى الدليلين[3].
وإن لتحديد معنى الاستحسان دور كبيرفى معرفة محل النزاع حول هذا المنهج المهم فى تقرير الأحكام، لذا سأعرض بعض تلك التعريفات والتى تلم بجميع جوانب الأخذ والرد، ثم أتبعها بتعليق العلماء عليها، كيما أنتهى بذلك إلى التعريف المختار والله الموفق للصواب:
-  فيطلق تارة على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره، أو يستحسنه المجتهد بعقله[4]. وهذا التريف بلا شك مردود لدى العلماء قاطبة ذلك أن الأحكام لا تؤخذ بالتشهي والهوى، وهذا مما اتفقت كلمة الأئمة على منعه.
- ويطلق تارة أخرى على أنه: عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره، لعدم مساعدة العبارة عنه[5]. وقد عزى هذا التعريف إلى بعض المالكية ، ووصفه بعضهم بأنه هوس[6] لأن كلمة "ينقدح" للمجتهد تعني: أنّه  شاك في اعتباره كدليل، والأحكام الشرعية لا تثبت بالشك أصلاً[7]، والدليل يشترط فيه الوضوح والظهور حتى يعرف صحته من فساده[8].
- وعرفه الأحناف: (بأنه العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه، أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه)[9].
والحقيقة أن هذا التعريف غير جامع ولا مانع؛ لأنه لا يشمل الاستحسان الثابت بدليل آخر غير القياس: كالاستحسان الثابت بالإجماع أو الضرورة عند من يقول بذلك ويشترط في التعريف: أن يكون شاملاً لجميع الأفراد، مانعاً من دخول الغير فيه.
- وعرفه الكرخي: (أنّه العدول عن حكم في مسألة بمثل حكمه في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى منه)[10]. وهذا يوجب كون العدول عن العموم إلى الخصوص، والمنسوخ إلى الناسخ استحساناً.
- وعرفه أبو الحسين: (وهو ترك وجهٍ من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه، وهو حكم طارئ على الأول) [11] خرج بالأول: التخصيص والنسخ. وبالثاني: الحكم بأقوى القياسين، فإنه ليس في حكم الطارئ، ولو كان في حكمه لكان استحساناً.
وعلق محمّد بن السحن على ذلك قائلاً: (ترك الاستحسان للقياس، كما لو قرأ آية سجدةٍ في آخر سورة فالقياس الاكتفاء بالركوع، والاستحسان: أن يسجد ثم يركع؛ لأن سماه استحساناً؛ لأن الاستحسان وحده وإن كان أقوى من القياس لكن انضم إلى القياس شيء آخر، وترجيح المجموع عليه، فإنه تعالى أقام الركوع مقام السجود في قوله تعالى: (وخر راكعاً وأناب)[12].
وهذا يقتضي أن كون جميع الشريعة استحساناً فوجب أن يُزاد فيه مغايرة ذلك الوجه للبراءة الأصلية، وبهذا يكون تعريفه (ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية والعمومات اللفظية لوجه أقوى منه، وهو في حكم الطارئ على الأول)[13].
ثم قال: (إنّ  أصحابنا أنكروا الاستحسان على الأحناف، والخلاف ليس في اللفظ لوروده في قوله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [14] وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه[15] وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"[16]. ولا معنى له إنّ  لم يرد فيه إجماع. وقول الشافعي في المتعة: (أستحسن أن يكون ثلاثين درهماً)[17]. وفي الشفعة: (أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام)[18]. وفي المكاتب: (أستحسن أن يترك عليه شيء)[19]. بل في المعنى، وهو: أن القياس إذا كان قائماً في صورة الاستحسان متروكاً فيها معمولاً به في غيرها لزم تخصيص العلة، وهذا عند جمهور المحققين باطل، فبطل الاستحسان.

-وقال ابن العربي: (الاستحسان: إيثار ترك مقتضى الدليل، والترخيص على طريق الاستثناء لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته). ثم قسمه إلى أربعة أقسام: (وهي ترك الدليل للعرف، وتركه للإجماع، وتركه للمصلحة، وتركه للتيسير ودفع المشقة وإيثار التوسعة)[20].
- وعرفه ابن رشد: (الاستحسان الذي يكثر استعماله هو: طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع)[21].
وقد استحسن هذين التعريفين الباحسين، وذلك لأنهما يفيدان أن الاستحسان رخصة شرعية يؤخذ بها استثناء عن مقتضى الدليل، قال : ( وهو فهم جيد لهذا الدليل )[22]
وقال الإمام مالك: (الاستحسان: هو العمل بأقوى الدليلين، أو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي، فهو إذا تقديم الاستدلال المرسل على القياس) [23]. وهذا التعريف ما حُكِي عن الإمام مالك وهو القول بأقوى الدليلين؛ هو محل النزاع بين العلماء، لأن بهذه التعريف يسبب الإختلاف بين الفقهاء فى صحة إطلاق لفظالاستحسان على القول بأقوى الدليلين[24].




التعريف المختار
بعد استعراض تلك العديد من التعاريف المتعددة المشارب، يمكن استخلاص منها بعض القضايا الهامة حول هذا الموضوع، :
أولا : نقاط الالتقاء :
- يظهر من جميع تلك التعاريف، أنها تجتمع على معنى فى الاستحسان ألا وهو ( الترك ) وإن اختلفت ألفاظهم فى التعبير عنه، كمن عبر منهم بالعدول، أوالتخصيص أو شىء من قبيل ذلك مما يفيد ذلك المعنى.
- وأن جميعهم أولوا جل اهتمامهم بجانب من جوانب المصطلح ألا وهو : استثنا جزئية من حكم الدليل الكلى عليها، سواء كان هذا الدليل قاعة أو قياس
- ومما يستنتج من تلك التعاريف: أن كل واحد منها اقتصر على جانب معين من جوانب الاستحسان – أى أنه أخذ بنوع واحد من أنواع الاستحسان -
- وذكر بعض الأصوليين أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، كصدر الشريعة من الحنفية[25]،وابن برهان، والآمدي، والزركشي، من الشافعية[26]، وابن قدامة من الحنابلة[27]. وما ذهب إليه الأصوليون- في نظري- صحيح، لأن مراد من رأى عدم صحة إطلاق لفظ الاستحسان على معنى القول بأقوى الدليلين- في نظري- هو عدم صحة تخصيص لفظ الاستحسان بهذا المعنى فقط؛ لأن للاستحسان معان أخر .
- لكن الناظر فى تلك التعريفات، يجدها فى غفل عن الإفصاح عن المعنى العام الذى يشترك ويربط بين الأدلة التى يتحقق بها هذا الاستثناء
و لكى نصل إلى تعريف يجمع بشتى جوانب القضية ويقلل الخلاف فيها، ومحرر لمحل النزاع، بحيث يجمع جوانب الاتفاق، ومانعا لجميع جوانب الاختلاف، لابد من الجمع بين أمرين ذكرتهما فى تحليل التعرفات، وهما: الجانب الاصطلاحى للموضوع، والمعنى الذى يربط بين الأدلة التى يتحقق بها هذا الاستثناء.
وعلى هذا الأساس يمكن تعريف الاستحسان بأنه :
( هو العدول عن حكم اقتضاه دليل شرعى عام فى واقعة إلى حكم آخر اقتضاه دليل آخر للتيسير ورفع الحرج عن المكلف)[28].
شرح التعريف:
(عدول المجتهد) قيد في التعريف يُخرج غير المجتهد؛ لأن الاستحسان نظر في الأدلة، وغير المجتهد لا نظر لـه.
(أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه) يعني أن للمسألة المراد بيان حكمها، مسائل أخرى مشابهة لها في الصورة، ولتلك المسائل حكم معين، لكن المجتهد ترك ذلك الحكم إلى ما يخالفه.
(لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول) أي: أن المجتهد ترك الحكم إلى ما يخالفه بناء على دليل أقوى من دليل الحكم الأول، وهذا قيد في التعريف لإخراج الاستحسان بالتشهي، ودون دليل.
ولذالك الذي يظهر لي أن العلاقة بين التعريف اللغوي، والاصطلاحي هي: علاقة عموم، وخصوص؛ فالتعريف اللغوي أعم من التعريف الاصطلاحي، من حيث إنه شامل للاستحسان الحسي، والمعنوي، أما التعريف الاصطلاحي، فهو خاص بالاستحسان المعنوي، وهو استحسان الرأي، أو الحكم في الشرع؛ سواء أكان بدليل، أم لا.
أو بعبارة الأخرى أن هذه التعاريف يختلف حالها من حيث التعميم والتخصيص، فبعضها تخصصه بتقديم قياس على قياس، وبعضها تجعله عاماً إلى تقديم مختلف الأدلة بعضها على بعض، وبعضها لا يتعرض إلى عالم تقديم الأدلة أصلاً، بل يؤخذ به لمجرد الاستحسان والانقداح النفسي.




المطلب الثانى
أنواع الاستحسان
لقد قسم المتأخرون من علماء الأصول الاستحسان إلى ستة أقسام وأوصلها بعضهم إلى ثمانية، وذلك باعتبار الدليل الذى يستند إليه الاستحسان، وهى :
- الاستحسان بالنص : وهو أن ترد صورة معينة يعطيها الشارع حكما مخالفا لنظائرها بمقتضى القاعدة العامة التى تجمع هذ الجزئيات كلها[29].
- إيراد : كيف يسمى هذا استحسانا، والأحكام الشرعية فى هذا النوع من الاستحسان إنما ثبتت بالنصوص الشرعية نفسها، فتسمية هذا استحسان حشر للشىء فى غير موضعه؟؟
قيل : هذا مبنى على الاصطلاح ، و لا مشاحة فى ذلك، وإنما دعاهم لهذا هو تقرير نظرية شرعية عامة تتعلق بالفروع المستثناة من حكم نظائرها، فهم أرادوا أن يجمعوا المتشابهات التى تتعلق بهذا النوع من الاستثناء والتوفيق بينها وإعطائها اسم نظرية ما، ولهم حق فى ذلك.[30]
نماذج التطبقية :
1 – تشريع الوصية : هى تمليك إلى ما بعد الموت، فالقاعدة المقررة فى تمليك الشرعى أن لا يضاف إلى زمان زوال الملكية, لكن الشارع استثنى من هذه القاعدة الوصية لحاجة الناس إلى تدارك ما فاتهم بقوله تعالى : (( من بعد وصية يوصى بها )) [31] ، جاء فى تبيين الحقائق : ( أن الانسان مغروغ بعمله مقصر فى عمله فإذا عرض له عارض وخاف الهلاك يحتاج إلى تلافى ما فاته من التقصير بما له على وجه لو تحقق ما كان يخافه يحصل مقصوده المألى، ولو اتسع الوقت وأحوجه إلى الاتفاع به صرفه إلى حاجته الحالى )[32]
2 – خيار الشرط وهو أن يشترط أحد المتعاقدين الحق فى فسخ العقد له أو لغيره، والأصل فى مقتضى عقد البيع اللزوم، ويكون صحيحا ما لم يتضمن شرطا، إلا أنه ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم تجويز خيار الشرط مع بقاء البيع صحيحا فيما روى عنه صلى الله عليه وسلم قال : لحيان ابن منقذ ( إذا بايعت فقل : لا خلاف ولي الخيار ثلاثة أيام )[33]
2 - الاستحسان بالإجماع : وهو أن يحكم المجتهدون فى مسألة على خلاف القواعد العامة أو يسكتوا على فعل من الناس يخالف القواعد العامة للشريعة أو أصل من أصولها[34].
ومن تطبيقاته :
- الاستصناع : وهو تعاقد شخصى مع صانع على أن يصنع له شيئا نظير مبلغ معين. فالأصل عدم جوازه لأنه من باب بيع المعدوم الممنوع عنه، غير أنهم جوزواه لجريان تعامل الناس به دون إنكار من أحد.
إستشكال : قد يقال : إن هذا الإجماع وقع معارضا للنص النبى صلى الله عليه وسلم ( وهو لا تبع ما ليس عندك )، ويجاب على هذا  بأن هذا التعامل كان جاريا منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا إستشكال أخر فالأولى بهذا المثال أن يكون من باب الاستحسان بالنص لأنه يعتبر سنة تقريرية مخصصة للنص العام، إلا أنهم لاحظوا فيه جانب السكوتى للفقهاء من الصحابة ومن بعدهم.
3 - الاستحسان بالقياس: ويكون هذا الاستحسان عند اجتماع قياسين أحدهما جلى ظاهر ضعيف أثره, والثانى خفى قوى أثره )[35]
فالظاهر من هذا الاستحسان أنه تردد مسألة بين أصلين فى كل منهما حكم ثابت شرعا وقد أخذ شبها من كل منهما, فيلحق بأقربهما شبها له لدلالة توجبه.
فليس الخفاء أو الظهور هو سبب الترجيح بين القياسين كما يقرره علماء الاحناف, وإنما لقوة الأثر كما يقول السرخسى : ( وإن يكون الترجيح لقوة الأثرى لا بالظهور ولا بالخفاء، لما بينا أن العلة الموجب للعمل بها شرعا ما تكون مؤثرة، وضعيف الأثرى يكون ساقطا فى مقابلة قوى الأثرى ظاهرا كان أو خفيا )[36]، وقال ابن همام : ( لا ترجيح لخفاءه، ولا للظاهر لظهورهم بل يرجع فى الترجيح إلى ما اقترن بهما من المعانى فمتى قوى الخفى أخذوا به أو الظاهر أخذوا به)[37].
استشكال : فيمكن السؤال هنا :هل الاستحسان نوع من أنواع القياس، أو لا ؟[38].
فمن قال: إنه ليس نوعاً من أنواعه، يلزمه أن يقول: بصحة إطلاق لفظ الاستحسان على القول بأقوى الدليلين، ومن قال: إنه نوع من أنواع القياس، يمكن أن يقول: بعدم صحة إطلاق لفظ الاستحسان على القول بأقوى الدليلين؛ فما دام أنه نوع من أنواعه فليسمى قياساً؛ إذ لا معنى لتسميته استحساناً.
ويجاب على هذا : أن الترجيح واخضاع الحكم فى الاستحسان بالقياس الخفى إنما هو  لرفع الحرج ودفع المشقة و الضرر عن العباد.
وهناك فرق بين القياس الجلى والقياس الخفى :
تعدية استحسان القياسى : اختلف القائلون بالاستحسان القياسى حول تعديته، فذهب الأحناف إلى جواز ذلك بشرط أن يكون طريق القياس مقطوعا به[39]، وذهب غيرهم إلى منع القياس على ما استثنى من القياس.
يمكن أن يقال فى هذه المسألة : أن الاستحسان إذا كان سنده النص وكان معقول المعنى يجوز أن يعدى إلى الواقعة التى تحققت فيه علته، فتعدية الحكم إلى غير موضع النص أساسه إدراك علة حكم النص سواء كان حكما مبتدءا أو حكما استثنائيا[40].
وهذا ما اشترطه بعض الأحناف كأبى الحسن الكرخى بأن تكون علته منصوصا عليها ومجمعا على تعليله أو أن يكون موافقا لبعض الأصول
نماذج تطبقية للاستحسان القياسى :
       1-  دخول المرافق فى الوقف من غير نص عليها استحسانا، والقياس يقتضى منع ذلك فهنا فيه تردد الوقف  الأراضى بين البيع والإيجارة فالظاهر قياسها على البيع للشتراكهمافى إخراج الملك من مالكه، وعدم الدخول الحقوق الارتفاقية تبعا للأرض بدون ذكرها، والقياس الخفى قياسها على الإيجارة حيث إشتركا فى إفادة ملك الانتفاع لالعين ولا يفيد تملك رقبتها وهذا يقتضى دخول الحقوق الارتفاقية فى الوقف تبعا من غير حاجة للنص عليها[41]
4 - الاستحسان بالضرورة : ويكون فى كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمرا متعذرا، أو يلحق بالمكلف مشقة أو عسرا شديدين ، فيعدل بها عن حكم فيها بمثل ما حكم به فى نظائرها[42].
ومن تطبيقاته :
- طهارة الآبار والحياض بعد تنجسها : فالأصل عدم طهارتها بعد تنجسها، لكنه ترك العمل بموجب القياس للضرورة ولدفع الحرج و المشقة عن الناس, فإنه لا يمكن صب الماء على البئر حتى يتأتى التطهير .
5 -الاستحسان بالمصلحة : وهو إخراج مسألة من حكم ثبت لها على القواعد العامة، للمصلحة.
ومن تطبيقاته :
- تضمين الأجير المشترك : تضمين صاحبا الحمام الثياب وتضمين صاحب السفينة، فالأصل براءة المؤتمن بالبراءة الأصلية لكنهم استثنوا من هذه القاعدة الأجير المشترك استحسانا بالمصلحة المرسلة[43].
الاستحسان بالعرف: ويكون فى كل تصرف تعارف الناس عليه، وكان مخالفا لقاعدة عامة أو قياس صحيح[44].
ومعروف كما للضرورة والمصلحة شروط وقواعد وضوابط كذلك للعرف للأخذ به.
وهذا النوع من الاستحسان بالتتبع لفروع المذاهب

المطلب الثالث
شروط المستحسن والمستحسن
1-    شروط المستحسَن:
أى شروط الحكم الإستحسانى وقد ذكر الفقهاء له شرطا واحدا وهو أن لا يرد فيه نص تشريعى, فكان الإستحسان لايجوز إلا من العالم بالكتاب والسنة لكيلا سيتحسن فى موضع قد نص عليه فيهما فكان بين العالم والجاهل فرق مؤثر فى الإستحسان[45].
2-    وأما شروط المستحسِن:
فالمستحسن هو المجتهد وقد ذكر الأصوليون له شروطا أهمها (أن يحوى علم الكتاب بمعانيه لغة وشرعا ووجوهه من الخاص والعام الخ وأن يحوى علم السنة بطرقها من التواتر والإشتهار والأحاد وأن يعرف وجوه القياس أى شروطه وملائمة الوصف وتأثيره كما مر[46].
وقال بعض الأصوليين (إنما تحصل درجة الإجتهاد لمن أوصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها , والثانى التمكن من الإستنباط بناء على فهمه فيها).
ويمكن أن نورد شروط الإجتهاد مقتبسة من عدة كتب للأصوليين:
1-    يشترط فى المجتهد أن يعرف معانى أيات الأحكام المذكورة فى القرأن لغة وشرعا وأن يكون عالما بمواضعها حتى يرجع إليها فى وقت الحاجة وهى مقدار خمسمائة أية.
أما معرفتها شريعة فبأن يعرف العلل والمعانى المؤثرة فى الأحكام وأوجه دلالة اللفظ على المعنى ومعرفة أقسام اللفظ من عام وخاص ومشترك الخ.
2-    أن يعرف أحاديث الأحكام لغة وشريعة بأن يكون متمكنا من الرجوع إليها عند الإستنباط بأن يعرف مواقعها بواسطة فهرسها ولابد أن يكون أسضا عالما بما إشتملت عليه مجامع السنة التى صنفها أهل الحديث كالأمهات الست وما يلحق بها من علم الرواية. وكذلك يشترط معرفة سند الحدبث وحال الرواة ويكتفى بتعدبل الأئمة الموثوق بهم فى علم الحديث.
3-    معرفة الناسخ والمنسوخ من القرأن والسنة فى أيات وأحاديث مخصوصةولا يشترط معرفة جميعه وحفظه بل يكفيه فى كل واقعة التى فيها بأية أو حديث أن يعلم أن ذلك الجديث وتلك الأية محكمان.
4-    أن يكون متمكنا من معرفة مساءل الإجماع ومواقعه حتى لا يفتى بخلافه ويكفيه فى ذلك أن يعلم فى كل مسألة يفتى فيها أنها ليست مخالفة للإجماع.
5-    أن يعرف وجوه القياس وشرائطه المعتبرة وعلل الأحكام وطرق إستنباطها من النصوص ومصالح الناس وأصول الشرع الكلمة لأن القياس قاعد الإجتهاد الذى تنبنى عليه أحكام كثيرة تفصيلية.
6-    أن يعلم علوم اللغة العربية ولا يشترط أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب بل تكفي القدرة على إيتخراجها من مظانها ومؤلفاتها.
7-    أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لأنه عماد الإجتهاد وأساسه الذى تقوم عليه أركان بنائه إذ أن الدليل التفصيلى يدلنا على الحكم بواسطة كيفية معينة لكونه أمرا أو نهيا ونحو ذلك وعند الإستنباط لابد من معرفة تلك الكيفيات وحكم كل سنها ولا يكفى معرفة مسائل الأصول فقط بل لا بد أنن يدرك هذه الأصول بنفسه كما أدركها الأئمة قبل تدوين علم الأصول وأن ينظر كل مسئلة نظرا مستقلا بوصله إلى ما هو الحق فبها, وذلك يتوفر له بالإحاطة بموارد الشريعة والتضلع فى فهم لسان العرب وتتبع وجوه إستعمال الألفاظ والمعانى وأساليب العرب وإلا فإنه مجتهدا فى دائرة أمام المذهب وليس مجتهدا مستقلا[47].
»»  READMORE...

أسباب اختلاف الفقهاء

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمـة
الحمد لله مظهر دينه المبين، وحائطه من شبه المبطلين وتحريف الجاهلين، بعث محمدا إلى كافة خلقه بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
والصلاة والسلام على من أوتى جوامع الكلم، المنتصب لبيان منهج الله، و إقامة شرعته، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد فقد اقتضت حكمة الله – سبحانه وتعالى - أن يخلق هذا الكون على اختلاف وتنوع فيه، وأن يخلق الإنسان المهيمن عليه على مشارب متباينة وطبائع مختلفة، فلا يكاد يتفق شخص مع غيره فى الطبائع والثقافات والأفكار والميول.
ومن ثم أنزل الله شرائعه على مقتضى طبيعة البشر، كلية مرنة تستجيب لتغيرات الأزمان والأمكنة، ثم كان منها محكمات ومتشابهات ، والقطعيات والظنيات، والصريح والمؤول لتعمل العقول وتجتهد فيما يقبل الاجتهاد فيعظم بذلك أجرها، وفى هذا توسيع للأمة فى أمور دينها ودنياها.
ولقد وجد منذ صدر الأول لهذه الأمة اختلافات فى الفروع وبعض مسائل الأحكام، وكان فى حياة صاحب التشريع – عليه الصلاة والسلام – وأقره ولم ينكره.
ولما كان للاختلاف الفقهى ومعرفة أسبابه من الأهمية فى التشريع الإسلامى، حيث كان بيان لوجهات النظر واتساع العلم، ومعرفة الحلول والاحتمالات الممكنة فى القضايا المستجدة. طلب منا الأستاذان الفاضلان:
الأستاذ الكتور : عبد المجيد محمود                      والأستاذ الدكتور: محمد نبيل غنايم
حفظهما الله ونفع بهما الأمة
أن نقوم بالبحث فيه وبيان أسباب الاختلاف العلماء، وامتثالا لذلك فقد قمت بالبحث فى هذا الموضوع على النحو التالى. والله أسأل منه التوفيق والقبول.



المنهج والخطة: وقد قسمت البحث إلى ثلاثة مطالب: المطلب الأول فى بيان المراد بالاختلاف، وبيان ضروريته، وأهميته.
والمطلب الثانى يتضمن بيان أسباب التى أدت إلى اختلاف الفقهاء، وهو على مقاصد المقصد الأول: أسباب الاختلاف فى ثبوت النصوص،
المقصد الثانى: أسباب الاختلاف فى فهم النصوص
المقصد الثالث: أسباب الاختلاف فى بعض المصادر
المسألة الأولى القياس وما يتعلق به
المسألة الثانية قول الصحابى
المسألة الثالثة الاستصلاح
المسألة الرابعة الاستصحاب
المقصد الرابع: أسباب الاختلاف فى التعارض والترجيح
المسألة الأولى مسلك الجمع بين النصوص
المسألة الثانية مسلك النسخ
المسألة الثالثة مسلك الترجيح
أما المطلب الثالث: فتوجت به لبيان الآداب والضوابط العلمية للاختلاف وهو على مقصدين
المقصد الأول: الآداب الخلقية والشرعية للاختلاف
المقصد الثانى: الضوابط المنهجية والعلمية للاختلاف
ثم تأتى الخاتمة والمصادر والمراجع ثم الفهرس. والله ولى التوفيق للقبول.




المطلب الأول
تعريف الاختلاف، ضرورته، نشأته وأنواعه.
المقصد الأول
تعريف الاختلاف ونشأته
المسألة الأولى تعريف الاختلاف فى اللغة والاصطلاح:
الاختلاف مصدر اختلف، ومعناه ضد الاتفاق، تقول: خالفته مخالفة، وتخالف القوم، واختلفوا إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وتخالف الأمران، واختلفا أى لم يتفقا، ولم يتساو[1].
والاختلاف فى الاصطلاح: منازعة تجرى بين المتعارضين لتحقيق حق، أو إبطال باطل عن دليل وبينة[2]
المسألة الثانية نشأة الاختلاف: قد كان منذ عهد التشريع الأول نوع من الاختلاف، ظهر بين صحابة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وهو بين أظهرهم، فأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، ولا أدل على ذلك من قضية جماعة الذين بعثهم إلى بني قريظة حيث قال لهم النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : ( من كان سامعا مطيعا فلا يصلين أحدكم إلا في بني قريظة )، فخرج المسلمون سراعا ، وأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فقال بعضهم: لقد نهينا عن الصلاة حتى نصل إلى بني قريظة فصلوا هناك ليلا، وقال الآخرون: لم يرد الرسول منا تأخير الصلاة حتى نأتي بني قريظة، وإنما أراد سرعة النهوض، فصلوا في الطريق، ولما علم الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – بذلك لم يوجه إلى أحد منهم لوم [3]). فقد اجتهد كل من الفريقين في فهم النص فعمل فريق بلفظه ومنطوقه، وعمل الفريق الآخر بمغزاه، وأقرالرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – كلا منهما على اجتهاده. وبعد انتقاله – عليه الصلاة والسلام -  توسع هذا الاختلاف بسبب انتشار الصحابة فى الأقاليم، وكل قد سمع ما سمع منه، والتقى بتقاليد وعادات غير التى عرفها، ثم تناقله تلاميذهم من التابعين ونما فيهم، لكثرة الوقائع والمستجدات.

المقصد الثانى
الفرق بين الاختلاف المذموم والاختلاف المحمود.
الناظر فى هذه الشريعة الغراء يكاد يعدم نصا، أودليلا يدعو إلى الاختلاف، بل سيصادف فيها بنصوص كثيرة تندد من الفرقة والاختلاف، ثم هو من جانب آخر يقابله مجال رحب من مجالات هذه الشريعة، - ألا وهو مجال التشريعى العملى - قائم على الاختلاف، فما الفرق بين هذين النوعين من الاختلاف؟
جاء فى الرسالة للإمام الشافعى قال: الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، ولا أقول ذلك فى الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة فى كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بينا، لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا،ً فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أوالقياس وإن خالفه فيه غيره، لم أقل أنه يُضَيَّق عليه ضِيقَ الاختلاف في المنصوص. واستدل الإمام على ذلك قال: قال الله فى ذم التفرق: ﴿  وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة[4] وقال جل ثناؤه: ﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات [5]﴾، فذم الاختلاف فيما جاءتهم البينات، فأما ما كلفوا فيه الاجتهاد فقد مثلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها[6].                
فواضح من كلام الإمام أن الاختلاف المذموم والمحرم هو ذاك الخلاف الذى يكون فيما هو قطعى وواضح الدلالة، لأن الخلاف فى هذا بدوره أن يشكل خطرا على وحدة الأمة، كما أنه لايكون إلا عن تعصب وهوى وعناد، ولا سيما بعد وضوح الحق.
أما الاختلاف الذى يبحث فى وجوه الأدلة، ويوازن بينها وبين دلالتها، ويسعى جادا ومجتهدا للوصول إلى نتيجة تزيد الآخرين قربا من التفهم من القضية محل النظر، وتزيدهم التبصر بأبعاد الموقف المرتبط بها، دون أن تملى رأيها الحر على الآخرين، فهذا من المفاخر والذخائر، لأنه ثروة تشريعية كلما اتسعت كانت أروع وأنفع.
ومعنى هذا تعدد النظريات والمبادئ والطرائق الحقوقية فى استمداد الأحكام وتقريرها.[7]

المقصد الثالث
ضرورة الاختلاف وأهميته
إذا كان الشرع قد حذر نوعا من الاختلاف، فإنه قد فتح بابا آخر للاختلاف بطلبه للاجتهاد فى قضيا تحدث للناس من شؤون دنياهم، وترغيبه فى ذلك.  
-  والاختلاف سنة من سنن الله الكونية، فقد اقتضت حكمة الله تعالى فى خلقه التبديل والتغيير، وقديما قالوا: بقاء الحال من المحال.
-  طبيعة البشر ( بتمايز العقول والتفكير ): وخلق الله البشر مختلفين فى الطبائع والقدرات والمواهب وغير ذلك، فلكل إنسان شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز عن غيره، وطابعه المتفرد به، فمن العقول ما ينفذ إلى صميم الأشياء، ويحيط بها من جميع جوانبها فيصل إلى حقيقتها، ومنها ما يظل طافيا ضيقا لا يدرك إلا الظواهر. وهذا بلا شك عامل قوى ومؤثر فى اختلاف الآراء والاتجاهات، ما دامت الطبائع والعقول تختلف، والاتجاهات النفسية، والأفهام وطرق المعاش والثقافة، فلا بد أن يترتب على ذلك اختلاف فى الحكم فى الأشياء والمواقف والأعمال وغيرها[8].
ولهذا النوع من الاختلاف أهميته، وذلك حتى يتم التطور فى الكون، فلو أن البشر جبلوا على طريقة واحدة فى التفكير لما أبدع الإنسان شيئا، ولما اخترع كثيرا من الآلات، ولكان الناس على حالة واحدة من الجمود.
-  طبيعة النصوص الشريعة : اقتضت حكمة العزيز الحكيم، أن ينزل نصوص هذه الشريعة الخاتمة، منها المحكمات والمتشابهات، ومنها القطعيات والظنيات، فيحتكم النوع الثانى إلى النوع الأول. كما جاءت هذه النصوص بصيغة مرنة حتى تتسع لتعدد الأحوال والأوضاع والأزمنة والأمكنة. وقيل فى الأثر: ( إن القرآن ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجهه[9]).
- الأمر بالاجتهاد: لقد رغب الشارع الحكيم فى الاجتهاد، والاختلاف نتيجة حتمية للاجتهاد، وذلك لتفاوت العقول، ومدارك النظر، وعمق الملكة الفقهية، فليس كل ذلك واحد فى الجميع[10].
    كما أن صياغة النصوص الشريعة لتتسع لأكثر من فهم وتفسير، دليل من                                 الشارع على إرادة الاختلاف، رحمة للأمة، وتكثير الأجور لأهل الاجتهاد  والاستنباط. كما يدل دلالة قوية على سعة هذه الشريعة، وعدم إحاطة مذهب معين بها، وهذا يجعل الأمة فى غنى من شريعتها لا تضيق بها عن حاجتها، وتوفر لها أسسا صالحة لحل المشكلات العارضة باختلاف الظروف والأحوال[11]
   والاختلاف عامل قوى لاجتساس داء التعصب الذميم، لأقوال بعض المجتهدين دون بعض، حيث لم يكن بينهم تنازع فى الفقه ولا تعصب، بل طلب بالحقيقة وبحث عن الصواب من أى ناحية أخذ، ومن أى جهة استبان. وقد أورد الإمام الشاطبى-رحمه الله- قول عمر بن عبدالعزيز-رضى الله عنه-: ( ما أحب أن أصحاب النبى – صلى الله عليه وآله وسلم – لا يختلفون، لأنه لوكان قولا  واحدا لكان الناس فى ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان فى سعة)، ويعلق الشاطبى قائلا: ( إن معنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون فى ضيق، فوسع الله على الأمة  بوجود الخلاف الفروعى فيهم، فكان فتح باب للدخول فى هذه الرحمة).          
    ثم إن اختلاف الفقهى دليل على حوية الفقه، كما يدل على تعدد النظريات والمبادئ والطرائق الحقوقية فى استمداد الأحكام وتقريرها، وهذا مما يجعل الأمة فى غنى من تشريعها لا يضيق بها عن حاجتها، ويوفر لها أسسا صالحة لحل المشكلات العارضة باختلاف الظروف.[12]
فالاختلاف فى الفروع إذا صدقت النوايا، يتيح التعرف على جميع الاحتمالات التى يمكن أن يكون الدليل رمى إليهابوجه من وجوه الأدلة.
كما أن فيه رياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح مجال للتفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التى تستطيع العقول وصول إليها[13].
»»  READMORE...